28-أكتوبر-2018

صورة توضيحية من الأرشيف لمتجر ملابس في غزة - gettyimages

في متجرٍ لبيع ملابس للنساء، قطعةٌ يقترب سعرها من الـ100 دولار، لكنها رديئة بدرجة تكفي لعدم التفكير في شرائها. يحاول التاجر إقناع الزبونة، فيقسم أنها مُستوردة من تركيا، لكن ما يلفت الانتباه أن الطابع الموجود على القطعة يحمل اسم مصنعٍ غزّي. ذات القطعة موجودة في محل مجاور، والبائع يكرر القسم نفسه، لكنه يعرضها بنصف السعر. توجهنا إلى المتجر التابع للمصنع الذي تحمل القطعة اسمه، فوجدناها فيه، ولكن بثلث السعر الذي قدّمه التاجر الأول.

في الأسواق الغزية، ملابسٌ محلية الصنع، يؤكد بائعوها للمشترين أنها مستوردة، ليكونوا قادرين على بيعها بأسعارٍ مرتفعة، فمن المعلوم أن ثمن البضائع المستوردة يزيد بسبب تكاليف إضافية غير موجودة في المنتجات المحلية، كمصاريف الشحن، وضرائب، وغيرها.

في الأسواق الغزية، ملابسٌ محلية الصنع، يؤكد بائعوها للمشترين أنها مستوردة، ليكونوا قادرين على بيعها بأسعار مرتفعة

في حالة تسويق الملابس المحلية على أنها مستوردة، يحصل التاجر على هذه النفقات الإضافية رغم أنه لم يدفعها أصلًا، ويتحملها المستهلك ظنًّا منه أنه يشتري قطعة ذات جودة عالية، هذه الجودة غالبًا تنكشف رداءتها بسرعة، وفي بعض الأحيان تكون الملابس المحلية مُنافسة للمستوردة بالفعل، لكن هذا لا يلغي حقيقة وجود الغش وإخفاء حقيقتها عن المشتري.

"صُنع في .."

يحيى الشناوي، خياطٌ ينتج فساتين الزفاف في بيته، ويبيعها لعدد من المحلات التي تعرضها للزبائن على أنها مستوردة، وبعضها تضع عليها طوابع مكتوبٌ عليها أسماء دول تزعم أنها مكان التصنيع.

اقرأ/ي أيضًا: لحوم نافقة ومريضة على موائد الغزيين

اكتشف الشناوي اللُّعبة عندما عمل خياطًا في واحد من أشهر متاجر فساتين الزفاف والمناسبات في غزة، وفوجئ أن معظم ما يُعرَض في المتجر يتم إنتاجه في "قبو" تحته. انتقل للعمل في متجر آخر، كان يصمم الفساتين وينتجها بنفسه، وذات يوم سمع صاحبة المحل تقسم لإحدى زبوناتها "والله العظيم من تركيا"، قاصدةً بذلك فستانًا حاكه بيديه.

يقول: "سرعان ما تبيَّن لي أن أغلب فساتين الزفاف وحفلات الخطبة الموجودة في القطاع، مصنوعة محليًا، وفي الغالب ما يتم استيراده يكون عيّنات لإنتاج قطع مشابهة لها".

ويضيف، "متوسط تكلفة إنتاج فستان الزفاف 800 شيكل (220 دولار تقريبًا)، أبيعه بألف شيكل للتاجر، الذي بدوره يعرضه للإيجار بمتوسط 1700 شيكل، أي أن المستهلك قادر على شرائه بأقل من قيمة الإيجار، وفي الغالب يتم تأجيره من أربع مرات إلى سبع".

ويتابع، "نظرًا لتسويق الملابس على أنها مستوردة، فإن التاجر يرفع سعرها بذريعة تحصيل مصاريف الشحن والجمارك وغيرها من النفقات التي تُدفع في رحلة الاستيراد، وكل هذه التكلفة يدفعها المستهلك، وتكون ربحًا صافيًا للتاجر".

ومن واقع اطلاعه على السوق، يوضح الشناوي أن نسبة كبيرة من الجلابيب النسائية وملابس الجينز المعروضة في الأسواق الغزية محلية الصنع وليست مستوردة كما يدّعي بائعوها. ويُرجع تصرف التجار بهذه الطريقة إلى ارتفاع تكلفة الملابس المستوردة، ما يجعل نسبة ربحهم فيها بسيطة، لافتًا إلى أن "المستهلك سببٌ في ذلك، إذ يُفضّل المنتج المستورد على المحلي".

ويؤكد أن التفريق بين المنتج المحلي والمستورد شبه مستحيل، خاصة لو كانت الجودة عالية، مشيرًا إلى أن بعض التجار يستوردون طوابع مكتوب عليها "صُنع في .."، ويختارون أي دولة، ثم يضعون اسمها على الملابس المحلية.

تجار في غزة يستوردون طوابع مكتوب عليها "صُنع في .."، ويختارون أي دولة، ثم يضعون اسمها على الملابس المحلية

يقول الشناوي: "أحزن جدًا عندما أرى القطع التي أنتجها بيدي تُسوق على أنها مستوردة، فلا حقوق ملكية فكرية تحفظ جهدي، ولا رقابة تقوّم حالة السوق".

دليلٌ على الجودة

من جانبه، يقول محمد سكيك، صاحب مصنع للملابس النسائية، وأمين سر جمعية تجار الألبسة: "فوجئت أن بعض التجار يضعون على الملابس التي ينتجها مصنعي طوابع تفيد بأنها مستوردة، ويقسمون للزبائن بذلك، فقررت أن أضع طوابع عليها صُنع في فلسطين".

اقرأ/ي أيضًا: خفايا تجهيز مخللات بغزة

ويضيف سكيك، "بعض التجار اعترضوا في البداية، وطلبوا إزالة الطوابع معللين ذلك بتفضيل المستهلك للمنتج المستورد، لكن بمرور الوقت تقبل أغلبهم الأمر، وكذلك الكثير من المستهلكين الذين جرّبوا منتجات المصنع ووثقوا بها".

ويتابع، "لكن هذا لا يسري على الجميع، فما يزال بعض التجار يرفضون الفكرة، منهم من يزيل الطوابع بنفسه، ومنهم من يطلب مني كميات كبيرة دون طوابع، وأضطر للموافقة على مضض من أجل استمرار عمل المصنع والعمال الموجودين فيه، فإن لم أقبل أنا سيقبل غيري".

ويُحمّل سكيك المستهلك جزءًا من مسؤولية هذا الخداع، "فالثقافة السائدة ترفض المنتج المحلي، عدا عن أن التجار بهذه الطريقة يحققون ربحًا أعلى" على حد قوله.

ويعتقد سكيك أن "وصف المنتج المحلي بأنه مستورد يدل على جودته، وعلى كفاءة قطاع صناعة الملابس"، لافتًا إلى أن غياب الإمكانيات وبعض المواد الخام يعيق تقدم هذه الصناعة. ويتساءل: "طالما أن المنتج الفلسطيني بهذه الجودة فلماذا لا نفخر به؟ ولماذا لا نصدره؟".

ماذا يقول القانون؟

وعن البعد القانوني لهذا الشكل من التجارة، يوضح أنور عزام، المحامي في المركز الفلسطيني للديمقراطية وحل النزاعات، أن "الغش التجاري هو الوصف الصحيح والقانوني لبيع الملابس المحلية على أنها مستوردة".

ويحكمُ القانونُ التجاري الفلسطيني رقم 12 لسنة 1966، العلاقةَ التجاريةَ بين التجار، فيما تخضع الإشكاليات بين المدنيين والتجار للقانون المدني الفلسطيني رقم 4 لسنة 2012، وفق ما أفاد به عزام، مبينًا أن قانون المواصفات والمقاييس الفلسطيني رقم 6 لسنة 2000 حدد مجموعة من العقوبات لمن يمارس تلك الأفعال. ففي نص القانون: "يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن شهر ولا تزيد على سنة، أو بغرامة لا تقل عن ألف دينار أردني ولا تزيد على عشرة آلاف دينار أردني أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونًا أو بكلتا العقوبتين معًا ومصادرة الأدوات المخالفة (...)، في حالة العودة تُضاعف العقوبة".

تغيير مكان صنع الملابس، غش تجاري، يُعاقب عليه القانون بالحبس وغرامة مالية

ويؤكد أن"أي أفعال من شأنها إيهام المستهلك واستغلاله بقصد الغش والتدليس، تندرج تحت وصف الغش، ويسري عليها ذات العقوبات، بغض النظر عن جودة المنتج، فحتى لو كان بجودة مماثلة للمستورد، فهذا لا يزيح تهمة الغش".

اقرأ/ي أيضًا: كيف يُصبح السمك الفاسد طازجًا في غزة؟

ويحقّ للمستهلك الذي يتعرض لهذا الخداع، بحسب عزّام، تقديم شكوى وفقا للأصول لدى النيابة العامة ووزارة الاقتصاد الوطني بصفتها الجهة المختصة بالرقابة على التجار والصناع والحامية لحقوق المستهلك، كما يحق له المطالبة بالتعويض عن الغش والاستغلال الذي تعرض له بغير وجه حق.

ويحدث أحيانًا أن يتم إنتاج ملابس محلية بتصميمات مماثلة لأخرى مستوردة، وبيعها بنفس القيمة، أو بأسعار أقل، مما يؤثر سلبًا على المُستورِد الذي تم تقليد بضائعه. "في هذه الحالة يجوز لمن تعرَّض للغش المطالبة بالتعويض عن الغش والخسارة التي لحقت به، إن استطاع إثبات عدم معرفته بحقيقة البضاعة، ويحق له ذلك وإن كان الثمن كثمن البضاعة الأصلية" كما بيّن عزام.

وفي حال استخدام اسم علامة تجارية أخرى، يحق لمن تم استخدام علامته التجارية اللجوء للجهة المختصة - وهي وزارة الاقتصاد الوطني - متقدمًا بطلب اعتراض على منح علامة تجارية مسجلة باسمه،أو تقديم شكوى ضد من استخدم علامة تجارية بهدف الغش، إذ يتم استئناف القرار الصادر عن دائرة العلامات التجارية بوزارة الاقتصاد الوطني بصفته قرارًا إداريًا إلى المحكمة العليا بصفتها محكمة إدارية للفصل والاعتراض أو الغاء القرار الصادر عن وزارة الاقتصاد.

ومن وجهة نظر عزام، "يجب على السلطات المختصة متابعة التجار والمستوردين بشكل جدي، ووضع معايير لاستيراد البضائع الملائمة لحاجة المستهلك، وبما يحفظ حقوق التجار والصناعات المحلية وضمان تسويق المنتج الوطني المحلي".

ما هو دور وزارة الاقتصاد؟

يتبع لدائرة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد بغزة 40 مفتشًا ينتشرون في مختلف محافظات القطاع يوميًا؛ لمتابعة البضائع الموجودة في الأسواق من حيث الأسعار والجودة وغير ذلك من المعايير. لكن هذا العدد القليل - كما وصفه مدير الدائرة محمد العبادلة - يجعل متابعة كافة البضائع باستمرار أمرًا صعبًا، "لذا نسعى لتوعية المواطنين، عبر فعاليات مختلفة، ليبلغونا عن أي خلل في الأسواق، ويمكن للمواطن تقديم الشكوى دون تسجيل اسمه وعنوانه، وبذلك لن يخشى أي رد فعل من التاجر الذي اشتكاه".

وزارة الاقتصاد: عقوبة تضليل المستهلكين هي مصادرة البضائع أو دفع غرامات مالية أو إغلاق المتجر أو الحبس

ويقول: "نتأكد من مدى صحةالشكوى، وإذا ثبت أن التاجر قام بتضليل المستهلك فإنه ينال عقوبته، إما بمصادرة البضائع، أو دفع غرامات مالية، أو إغلاق المتجر، أو الحبس، ويحكمنا في ذلك قانون حماية المستهلك".

وبحسب العبادلة، فإن الثقافة السائدة عند المواطنين أن وزارة الاقتصاد تتابع المواد الغذائية فقط، لذا فإنهم قلّما يتقدموا بشكاوى تتعلق ببضائع من نوع آخر.

ويبين العبادلة أن قانون حماية المستهلك يسري على الملابس، بما فيها الملابس محلية الصنع التي تحمل ملصقات الاستيراد، موضحًا أن الوزارة تتابع كل ما يستهلكه المستهلك، "فكل مادة يجب أن يكون عليها ملصق يوضح بلد المنشأ، والمصنع، والمستورد، وفي حال عدم وجود الملصق، يتم مراجعة البائع ثم المصنع".

ويؤكد على حق المستهلك أن يعرف مكان إنتاج السلعة، "ثم له حرية الاختيار في شرائها أو رفضها، فهو الذي يقرر إن كان يريد منتجا محليًا أو مستوردًا، وغير ذلك تضليل، ونحن دورنا منع التضليل".

ويُشار إلى أن عدد مصانع الخياطة المُسجلة لدى وزارةالاقتصاد منذ 1999 بلغ حوالي 1180مصنعًا، ولكن العدد تراجع بسبب الحصار المفروض على القطاع، ليصل إلى 250 مصنعًا فقط، منها من يعمل على مدار العام، ومنها من يعمل بشكل موسمي.

وتنتج هذه المصانع أصنافًا مختلفة من الملابس، هي ملابس أطفال، والزي المدرسي، والمطرزات، وملابس نسائية، بالإضافة إلى منتجات الجينز للرجال والنساء والأطفال.

تواصلنا مع عدد من التجار الذين علمنا أنهم يعرضون ملابس محلية على أنها مستوردة، منهم من رفض الحديث، ومنهم من نفى الأمر بشكل قطعي، وبعضهم أقرَّ بحدوثه لكنه ألقى بالتهمة على تجار آخرين، مؤكدًا أنه لا يسوّق ملابسه بهذه الطريقة.


اقرأ/ي أيضًا:

قطاع الملابس في غزة يحيك نفسه من جديد

صور | رموز يهودية تُحاك في مخيم بغزة

تجارة الملابس المستعملة في غزة تعيش أصعب أيامها