21-نوفمبر-2019

على باب دكانها العتيق في بلدة سلواد شرق رام الله، تجلس البرازيلية ايدازويتا نسيمينتو (70 عامًا)، واضعة على طاولتها علمين صغيرين، أحدهما لدولة البرازيل والآخر لفلسطين. وعلى وجهها المليء بأخاديد الزمان ترسم ابتسامة دائمة، تجذب من خلالها أطفال سلواد لشراء ألعابهم المزركشة من هناك، حتى وإن لم يملكوا كل ثمنها، فهي تعتبرهم أحفادها وتحفظ أسماءهم كلهم، وبلهجة سلوادية مكسرة تقول: "بهمش، بحبش أكسر بخاطرهن".

ايدازويتا نسيمينتو، برازيلية تزوجت من فلسطيني وعادت معه إلى بلدته سلواد، وكسبت قلوب أهل بلدته

تزوجت ايدازويتا والملقبة بـ"ديّا" من الحاج عبد الرحمن حماد قبل 50 عامًا في البرازيل، بعد أن كان يلمحها من باب دكانه القريب من بيتها الكائن في قرية بهيتا في مدينة ساو باولو، أثناء خروجها مع أمها إلى السوق، وينتظر بفارغ الصبر أن تأتيه لتشتري أي شيء كي يراها. وبحسب "ديّا"، فقد كان الإعجاب متبادلاً، ولكن والدها "رجلاً شديدًا"، فخشيت انكشاف أمرها، ومرت الأيام حتى تكللت هذه النظرات بالزواج.

اقرأ/ي أيضًا: الدنيا ربيع والجو بديع.. مصرية في جنين

تقول "ديا"، إنه لم يكن صعبًا عليها أن "تُغيّر دينها"، فقبل إتمام مراسم الزفاف، أخبرها والدها -كما يعتقد- أن زواجها من رجل مسلم يعني أن تكون على دينه، فطلبت منه أن تعرف أكثر عن الإسلام. تُضيف، "أعجبت بهذا الدين كثيرًا، وأحسست أنه دخل قلبي مع الوقت، فتطهرت ونطقت بالشهادتين وأنا اليوم والحمدلله، أصلي وأصوم وذهبت لأداء العمرة منذ سنوات".

عاشت "ديا" مع زوجها الفلسطيني في بلدها البرازيل، وكان كل شيء يسير على ما يرام، وأنجبت هناك ابنيها شاهر وقاهر، ومع أن حياتهم في المدينة كانت مستقرة، إلا أن عبد الرحمن اشتاق لبلاده، وأقنعها بالعودة معه.

عام 1975 وعلى المدخل الشرقي لسلواد كان الرجال يصطفون لاستقبال عبد الرحمن وعائلته بالأعيرة النارية، فيما أطلقت النسوة الزغاريد من نوافذ منازلهن، وتجمع الأطفال حول العائلة مشدوهين برؤية المرأة الأجنبية وصغارها.

تقول: "وصلنا إلى البيت وكان بانتظارنا النساء والأطفال، ورائحة اللحم واللبن تملئ المكان، وفجأة أقبلت امرأة على زوجي تقبل خده بحرارة وتمسد على رأسه، وتغني وترقص وتنظر إلي بازدراء، فحاولت أن أسأل الحاضرات بلغة الإشارة: من هذه؟ فأشارت إحداهن إلى خاتم الزواج في يدهًا، فعلمت أن عبد الرحمن كان متزوجًا قبلي، ولم يكن أمامي إلا أن أضربه وزوجته ببطيخة صغيرة وجدتها على الطاولة، وتعالت الأصوات".

فوجئت ديّا أن زوجها متزوجٌ قبلها، فضربته وزوجته ببطيخة صغيرة وجدتها على الطاولة، وتعالت الأصوات

رغم أن "ديا" امرأة لا تقبل فكرة تعدد الزوجات، إلا أن حبها لزوجها وخوفها على أطفالها أجبرها على الرضى بالأمر الواقع، وبعد مضي سنوات قضتها في سلواد، فقدت المرأة اللاتينية الغريبة أمها وأباها وأخواتها، خلال أحداث الانقلاب في البرازيل التي لا يزال يخفي النظام الحاكم أعداد ضحاياها، ولم يعد لـ"الغريبة" أهل تزورهم ولا حتى ترسل لهم المراسيل كما كانت تفعل، ولكن نسوة الحي آزرنها فكن لها أخوات وصديقات، كما تقول.

اقرأ/ي أيضًا: مغتربات في غزة.. لا شفاء من البعد

رغم شخصيتها الاجتماعية، وحبها لمخالطة كل الناس، إلا أن جذورها البرازيلية وقفت عائقًا أمام تعلمها اللغة العربية "الصعبة" كما وصفتها، فزوجها عبد الرحمن لم يكن يتكلم معها إلا بالبرتغالية، وعلمها كلمة "مبسوطة" لتجيب بها على أغلب أسئلة النسوة، كون الكلمة سهلة على اللسان، إلا أن "ديّا" بذكائها وفطنتها استطاعت تعلم مفردات كثيرة كانت تسمعها من جاراتها في الحي وتكررها من أجل حفظها، وهي اليوم لا تتكلم بالبرتغالية إلا من أجل إبهار جاراتها بطلاقة لسانها وتآلفها مع نغمات الحروف الأعجمية.

ولصديقات "ديَّا" فضلٌ أيضًا في تعلمها الأكلات الفلسطينية الشعبية، وصنعها حسب الأصول، فكانت تقف إلى جانب القدر على النار، وتنظر إلى ما يصنعن بصمت وتركيز بالغين، وتعود لبيتها وتقلد ما رأت بحذافيره، حتى أتقنت طهي كل الأكلات الشعبية ما عدا المنسف الذي حسب قولها "لذيذٌ وصعب".

تحب "ديَّا" المقلوبة كثيرًا، وتقول إن زوجها لا يحب هذه الأكلة تحديدًا إلا من يدها، مضيفة، أنها تعشق رائحة التوابل الشرقية "التي يحرص العرب على أن تكون حاضرة في معظم أكلاتهم"، رغم أنها في البرازيل كانت معتادة على أكل الخضروات دون هذه الإضافات.

برغم الأوضاع السياسية الساخنة في فلسطين، وبالرغم من أن سلواد بلدةٌ لا تهدأ فيها الاقتحامات والاعتقالات وهدم البيوت، إلا أن البرزيلية "ديَّا" لم تفكر أبدًا في العودة إلى بلادها ولا حتى زيارة مدينتها بعد موت عائلتها هناك، فهي "تشربت حب فلسطين"، وناصرت القضية، وكسبت قلب أهل البلدة، وأصبح لديها رفيقاتٌ لا تحلو لهن المجالس إلا بوجودها، وبسماع أحاديثها بلهجة سلوادية مكسرة، ثقيلة على لسانها خفيفة على قلب كل من يسمعها.


اقرأ/ي أيضًا: 

شابات لجأن إلى رام الله.. كيف الحياة معكن؟

زوجات مغتربين بين تضييق الأهل ونار الشوق

غزة وبديهيات الحب في حارة العبيد