04-فبراير-2022

Getty

أعادت موجة الأحداث المُتلاحقة في قرية بُرقة شمال غرب نابلس بين كانون أول/ديسمبر 2021 وكانون ثاني/يناير 2022 الحديث عن تاريخ هذه القرية وحضورها في المشهد النضالي كواحدةٍ من قُرى المُواجهة الفاعلة مع المشروع الاستعماري في فلسطين.

كانت بُرقة بموقعها شديدة الأهمية للسماح بالتواصل بين أقطاب التحالفات الدائرة على زعامة الجبل

لم تهدأ برقة منذ أن وجدت نفسها في وسط جبل نابلس على جانب الطريق التجاري القديم بين مدينتي نابلس وجنين، ذات الموقع جعلها نقطة ارتكاز واتصال بين عائلات الجبل المُتنافسة على الزعامة، فشهدت أطرافها والسهول الممتدة أمامها صراع حزبي القيس واليمن لأكثر من 400 عام، وعلى تُرابها قامت معارك قوى الإقطاع لبسط النفوذ وحكم الأطراف وكسب رضى الدولة الحاكمة، ذلك أن برقة كان لها الكلمة في مشيخة ناحية واد الشعير في جبل نابلس.

اقرأ/ي أيضًا: جبل العرمة: خبطة النبي إبراهيم والذهب والشجاع الذي مات خوفًا

وقد سجّلت الوثائق والنصوص التاريخية تفاصيل كثيرة عن تلك الوقائع في العهد العثماني. ومرد ذلك موقع برقة الممُيز بين مركزي الجبل: مدينة نابلس وقرى جنين التي لها الزعامة (صانور- عرابة)، فكانت القرية بموقعها شديدة الأهمية للسماح بالتواصل بين أقطاب التحالفات الدائرة على زعامة الجبل. ولذا ظلت بُرقة طوال الوقت نارًا تشتعل لظاها حربًا وصراعًا في واد الشعير.

مَرَّ القنصل البريطاني جميس فن ذات مرة وهو في طريقه إلى نابلس بقرية برقة،  وكان ذلك بتاريخ 21 كانون أول عام 1854، فذكر ما تتعرض له من حرب وصراع  يدعم أحد أطرافه مقاتلوا آل عبد الهادي، فيما يدعم الطرف الآخر مقاتلو دار جرار، فوصف الأمر بقوله: "التقينا بمجموعة مؤلفة من سبعين رجلاً مسلحًا قبل وصولنا قرية صانور بقليل، كانوا يهزجون بأغاني القتال بعد عودتهم من عمليات كانت قد دارت على مسافة مُتقدمة منا. أخبرونا بأنه كان قد تم استدعاؤهم من قبل زعمائهم تمهيدًا للسير باتجاه بُرقة الواقعة بالقرب من سبسطية. وبعد أن اجتزنا إحدى الرُّبى الواقعة وراء برقة  لاحظنا انتشارًا كثيفا لدوريات راكبة من البدو في الاتجاهات كافة. وكان ما يقرب من مائة خيال بدوي قد ترجلوا عن خيولهم في بيارة زيتون..".1

ولما وصل القنصل إلى برقه وصف المشهد بقوله: "فدخلت قرية برقة فوجدت البيوت قد أغلقت أبوابها ونوافذها كافة، وكان كل ركن وكل زاوية من أركان وزوايا الطرقات فيها، مخفورًا بثلاثة رجال مُسليحن..".2

ويتضح من نصوص أخرى بأن الحرب في ساحة برقة بين حزبي القيس واليمن أبعد من القرن التاسع عشر، كما في إشارة الشيخ عبد الغني النابلسي في القرن السابع عشر للميلاد، وذلك في رحلته إلى القدس وبلاد الشام حيث مرّ بالقرية في العام 1693، فوصف حصارها وما تتعرض له.3

 تحملنا هذه النصوص وغيرها لنعي بوضوح طبيعة الاحتراب على موقع برقة وتدخل حلفاء عائلات برقة سيف والحفاة (لحفا) في المشهد، فالقرية واقعة في نقطة جغرافية ملغومة الأهمية، ولأجل ذلك ظلت علّة موقعها هي الباعث الأساسي في الصراع عليها بين الفريقين. وكانت الغلبة لأي عائلة من عائلات برقة المنقسمة بين القيس واليمن تعني تولي مشيخة المنطقة المعروفة باسم واد الشعير.4 وقد حشدوا لأجل ذلك جيوشهم وحلفاءهم من البدو والفلاحين كما تشير الوثائق والنصوص، ولعبوا دورًا هامًا في تغيير التركيبة الاجتماعية داخل القرية في نهاية المطاف، فانتشر المئات من أهالي برقة في فلسطين.

رجال الشدّة

جُبلت طينة أهالي برقة على الإقدام، فما من زاوية أو موضع في أطراف القرية إلا ويذكر الأهالي قصصًا عن مناوشات واحتراب جرى فيها، وكانوا حاضري الفعل في الثورات في القرن التاسع عشر، كثورة الفلاحين عام 1834 ضد إبراهيم باشا التي كان لشيخ واد الشعير عيسى البرقاوي دور رئيسي فيها.5 الأمر الذي بقي منه أثرٌ لاحق في تشكل هويتهم الصلبة التي يصعب معها التنازل عن حق أو التفريط  بأرض.

يذكر الأهالي بأنه صدف وجود نحو 70 أسيرًا من القرية في سجن نابلس قبل الانتفاضة الأولى. وتفخر البلدة اليوم بأنها قدمت 58 من أبنائها شُهداء في سبيل الحُرية

وقد التصقت صفة الشجاعة بأبناء القرية وأهلها عمومًا، ولذا نجد لهم حضورًا في كل مواقع النزال والصراع مع العدو خلال المائة عام الماضية، ولهم من الشهداء والأسرى ما يُنبئ عن أثر الحرب القديم في صناعة هوية الجيل الجديد. حيث يذكر الأهالي بأنه صدف وجود نحو 70 أسيرًا من القرية في سجن نابلس قبل الانتفاضة الأولى. وتفخر البلدة اليوم بأنها قدمت 58 من أبنائها شُهداء في سبيل الحُرية.6

ويكاد ينطبق الأمر على عدّة أجيال من أبناء برقة الذين عاشوا خارجها -كأحد إفرازات الصراع القديم- كما هو الحال مع الشهيد عبد الرحيم الحاج محمد القائد العام للثورة الكبرى (1936 - 1936) ثم خليفته في قيادة الثورة أحمد أبو بكر، فكلاهما يعود بأصوله لقرية بُرقة.

ويروي بعض الأهالي قصصًا عن أحداث ووقائع كثيرة كانت فيها بُرقة عصيّة على الكسر، بل وسبّاقة للعِراك والمواجهة صونًا لمكانتها وصورتها التي حاكتها عن نفسها مع الوقت، ذلك أنهم يصفون حالهم بالقول: "أهل بُرقة ما بِمرُق عليهم إشي"، بمعنى لا يُمكن خداعهم. وهم على طيبتهم وَحُسنِ طباعهم إلا أن غضبهم شديد، وذلك بنص قولهم: "أهل بُرقة ملاح بَس زعلهم عاطل".

ولعلّ واحدة من طرائف القصص في هذا المعنى حكاية "جَحش القن" التي يرويها كبار السن في القرية، وهي حادثة وقعت مع رجل بسيط من برقة يُعرف بالقِن، سطا عليه بعض اللصوص وأخذوا حماره وما معه من أمتعة، فلما شكا إلى كبير تلك المنطقة ما حدث معه من جماعته، سَخِرَ منه وقال له: "قول لشيخ بُرقة ييجي يحصلك حقك". وقد كان، حيث هَرعت بُرقة عن بُكرة أبيها لتُعيد الحق للقِن عِنوة، وتُطيبَ خاطره فوق ذلك بما غنموا من غريمهم بقوة الذراع.

 النساء المُنتصرات

يَروي الأهالي -في لقاءات منفصلة أجريتها معهم- حكاية حَدثت في العام 1988 في القرية، ويذكرون تلك الحادثة كواحدة من أهم ذكرياتهم عن الانتفاضة الأولى. حيث وقعت أحداثها بعد أن أعلن نُشطاء الانتفاضة أن قريتهم أصبحت جُمهورية حُرة مُستقلة، فسعى الاحتلال لإنهاء الظاهرة كما فعل مع قرى: عقربا وبيت فوريك والسيلة التي حاولت قبل برقة إعلان العصيان المدني ومنع الجيش من دخول قُراهم.

حاول جيش الاحتلال يومها صدّ أهالي القرية الذين أمطروه بالحجارة، لكنه فشل في ذلك، فاقتحم الجيش المسجد، مُحتميًا بكبار السن 

فاقتحم جيش الاحتلال قرية بُرقة عدّة مرات وبدأ حملة اعتقالات وقمع شرسة للنشطاء، كان منها اعتقال اثنين من مطاردي الانتفاضة عند عين الدلبة شرق القرية، ثم اقتادَهما الجيش وأراد الخروج بهما من وسط القرية، فانتبهت له بعض النسوة، فصرخت تنتخي بالشباب، الذين سُرعان ما هبّوا لساحة المواجهة. ودارت مواجهات شارك بها الرجال والنساء في وسط القرية.

ومن جُملة النُّسوة المُنتفضات -التقيتها شخصيًا- التي يُنسب لها الفضل الأساسي في الأحداث السيدة رقية السليم "أم حكمت"، حيث صاحت تنتختي الشباب، ثم تقدمت والعصا بيدها تصرخ بوجه الجنود وتتوعدهم بأشد العقاب، فأقبل أحدهم يُريد ضربها ببندقيته، فشدّته من خُوذته وطرحته أرضًا وشتمت أمّه التي لم تُحسن تربيته، ثم راحت تضربه بقبضتها قبل أن يُخلصه من يدها صحفيٌ إسرائيلي. ولم تكن "أم حكمت" وحدها من تصدّت للجنود في تلك المواجهة، حيث تقدمت صاحبتها الحاجة "أم محمد" وأمسكت برأس أحد الجنود ووضعته في برميل الماء ثم دفعته بعيدًا عن الشباب.

وقد حاول جيش الاحتلال يومها صدّ أهالي القرية الذين أمطروه بالحجارة، لكنه فشل في ذلك، فاقتحم الجيش المسجد، مُحتميًا بكبار السن طالبًا منهم التدخل لإخراجهم من القرية، فقبل الأهالي ذلك شريطة أن يتم إطلاق سراح الشابين الذين تم اعتقالهما، وفعلاً، أفرج الجيش عنهما، ليسمح للجنود بمغادرة القرية أحياء.

بوتيرة مُتدرجة تواصل برقة فعلها المقاوم، رفضًا لاستمرار احتلال جبل القبيبات من قبل غُلاة المستوطنين لصالح إقامة مدرسة دينية، رغم وجود قرار بإخلاء مستوطنة "حومش" وردّ الأرض لأصحابها. ومن الواضح أنّ الهبّة الحالية لن تخمد إوار نارها المُشتعلة إلا باستعادة حقهم في الجبل، وعودة فلاحي القرية لغرس الأرض وزراعتها بما يُشببها ويُشبههم من محاصيل وأشجار.


المصادر والمراجع: 

1- أزمنة مثيرة (وقائع وسجلات القنصلية البريطانية في بيت المقدس 1853-1856) جيمس فن ،ترجمة جمال أبو غيدا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر طب 2017. الصفحات: 697-700

2- أزمنة مثيرة (المصدر السابق).

3-السياحات الصوفية- موسوعة رحلات العرب والمسلمين إلى فلسطين، تيسير خلف، دار كنعان. دمشق 2010. الجزء الثالث، الصفحة: 105

4- تاريخ جبل نابلس والبلقاء (4 أجزاء)، إحسان النمر. مطبعة جمعية عمال المطابع التعاونية 1975، الجزء الاول ص 164، الجزء الثالث ص: 287.

5- اتاريخ جبل نابلس والبلقاء (المصدر السابق)

6- مقابلات شفوية: الحاج مفيد شاكر أبو عيد مواليد 1948م. السيد شريدة محمد شريدة رمضان مواليد 1950م. السيد شادي زاهي أبو عمر، مواليد 1984م. الحاج حسين عمر مسعود، مواليد 1962م. السيد سمير حجة أبو معتصم، مواليد 1960م. السيد جهاد حجة، مواليد 1957م. جهاد دغلس مواليد 1948م. تيسير أحمد علي، مواليد: 1950م. نجوات عامر عمر، مواليد 1959م . عماد أحمد سيف، مواليد 1970م. الحاجة رقية سليم الشعلان ام حكمت، مواليد: 1937م  . الخميس: 30/12/2021+ الثلاثاء: 4/1/2022


اقرأ/ي أيضًا: 

نسوة الشالات السود

صور | مغارة النعسان.. "قبائل الجان" تحمي كنزًا أثريًا!