تتواصل حرب الإبادة الاستعمارية على الوجود الفلسطيني في قطاع غزة، وتدخل شهرها السادس، من مسلسل مُمتد منذ نحو أكثر من 100 عام، لأن معاناتنا كفلسطينيين بدأت مع وجود الاحتلال البريطاني الذي وصل لهذه البلاد بقوته العسكرية عام 1917، وما انفك يعمل على إضعاف المجتمع الفلسطيني وإرهاقه وملاحقة قُواه الحيَّة ليؤسس وطنًا قوميًا للحركة الصهيونية كما وعد (المستر بلفور)، الأمر الذي أتاح لهم تحقيق الجزء الأول منه عام 1948، وطوال تلك المُدّة لم تُلقَ العصا التي نُجلَدُ بها من يد الاستعمار، ولم تُرفع الأغلال والقيود عن معاصمنا، ولم نُترك للحظة واحدة كي نستريح من وحشية مخططات الإبادة والتصفية لكل ما هو فلسطيني.
ماذا يحدث في غزة؟
ندخل الشهر السادس من الحرب المتوحشة التي تستهدف الفلسطينيين قتلًا وهدمًا وتجويعًا وتدميرًا لكلّ مقومات الحياة، وقد طال الموت فلسطين بمُكَوّنها كُله "البشر والشجر والحجر"، "الماضي والحاضر والمستقبل"، وكان من الواضح أمام كثرة المجازر المرعبة والمروعة بأن ثمّة ما هو مقصود من الاستهداف، وإن مَر سريعًا في الأخبار أمام وجعنا من كثرة عدد الشهداء والجرحى وحجم الوجع اليومي، إلا أن هذا الأمر يستدعي إعادة قراءة تفاصيل حرب الإبادة بدقة ومنها التنبّه للفعل الممنهج لكثير من الجرائم التي بُثَّ شيء منها وَنُشر عنها بتَقَصُّدٍ وتعمّد، ومن ذلك صور المرضى النفسيين من جنود الاحتلال العابثين بالملابس النسائية مثلًا.
حرب الإبادة هذه هي الأصعب في ذاكرتنا المعاصرة، بل هي من الأصعب في التاريخ الفلسطيني الحديث إذ لم يفُقها وحشية سوى جريمة النكبة الكبرى
في التفاصيل لهذه الحرب يظهر بأن هناك فعل من مستوى أعمق ويتم ارتكابه وفق خطة ممنهجة ومدروسة مثل الإعدامات الميدانية والاغتيالات الدقيقة لشخصيات يمكن اعتبارها مفاصل حيوية في بنية المجتمع الغزّي، وتعمد هدم المعالم التاريخية والتراثية والدينية، ومثلها تدمير الفضاء العام الذي شكل هوية غزة وذاكرة أهلها، وصار الحديث مؤخرًا عن القتل بالتعذيب لبعض الأسرى الغزيين وتعذيبهم حَدّ الموت، وأكثر منه ما يتم نشره عن جرائم اغتصاب.
ولمّا كانت حرب الإبادة هذه هي الأصعب في ذاكرتنا المعاصرة، بل هي من الأصعب في التاريخ الفلسطيني الحديث إذ لم يفُقها وحشية سوى جريمة النكبة الكبرى، ومع ما نُشاهده من سُعار الاحتلال ودمويّته التي لا حدّ لها ولا رادع في ظل هذا الخُذلان العالمي والتواطؤ العربي والصمت المُعيب من أمتنا، يأتي السؤال هل حقًا ما يحدث هو أمرٌ معقول؟ ولماذا يتعمد هذا الوحش المسعور تدمير كل شيء يتصل بالحياة؟ ولماذا يفعل هذه الوحشية المنظمة والمدروسة بدقة؟ ثُم يبثها لنا وينشر شيئًا من تفاصيلها؟
وكي نجيب على ذلك علينا أن نفهم هوية المجتمع الفلسطيني وخصوصيته بشكل عام والمجتمع المُستباح والمُدمر حاليًا وهو قطاع غزة.
الانتماء وتشكل الهوية
لا تتشكل الذاكرة الجَمعية بمحض الصدفة، ولا يُصنع الانتماء وتصاغ الهوية بشكل عابر وسريع، الهوية الجمعية تتشكل بفعل التراكم الحضاري المستمر، وتصاغ وتتبلور وفق الأحداث المهمة وما تتركه من بصمة وشواهد وأثر، ويبدأ تكون ذلك وتكريس حضوره ومعناه من لحظة وعي المجتمع لذاته وللأَخطار التي تُحدق به، فتُخلَقُ أحلامه وطموحاته الجماعية التي يتطلع لها، حتى وإن كان مفهوم التعبير عن الهوية الجمعية حديث، والانتباه له لا يتجاوز التاريخ المعاصر، إلا أن هذه الهوية عند تشكلها والحاجة للتعبير عنها إنما تستمد ذاتها من عمقها التاريخي القديم، وتنهل من تراثها الحيّ وإرثها الخفي الكامن في شخصية الفرد وموروث الجماعة، وطبعًا تتأثر بمحيطها وجوارها وأثر الثقافات والمجتمعات التي تحتك بها سلبًا أو إيجابًا على شخصيتها ووجودها.
لا تتشكل الذاكرة الجَمعية بمحض الصدفة، ولا يُصنع الانتماء وتصاغ الهوية بشكل عابر وسريع، الهوية الجمعية تتشكل بفعل التراكم الحضاري المستمر، وتصاغ وتتبلور وفق الأحداث المهمة
وعليه يمكنني القول أنه خلال المائة عام الماضية صيغت هوية المجتمع الفلسطيني وَجُبِلَت بمتانة على أرضية صلبة كان أهم ركائزها من وجهة نظري أربعة نقاط، والتي إن فهمنا علاقتها بهَويتنا وشخصيتنا سَنفهم مباشرة لماذا يجب أن ننتبه للجَرائم المُمنهجة في الحرب المتوحشة.
أولًا: صيغت الهوية الجمعية على متانة العلاقة مع الأرض وضرورة التمسّك بها وتقديس الفعل المرتبط بها عملًا وإنتاجًا وتضحية، ولذا برزت بدرجة أولى الرموز الشعبية المرتبطة بها كالثّوب المطرز (الفلاحي) والكوفية والزعتر والزيتون، وسنابل القمح وَصواني القش، وأدوات الفلاحة والزراعة عمومًا باعتبارها أدوات التراث الشعبي.
ثانيًا: الاعتداد بالفرادة الثقافية والإسهام الاجتماعي للكبار والرموز، حيث يتفق الفلسطينيون بعِمومهم على تقدير النّخب الشعبية والعلمية والثقافية والنضالية واحترامها، ويتم تقديمها والسماع لها عند تدخلها لتصويب مسارات وخلافات داخل المجتمع، وأن لهؤلاء الشخصيات دائمًا ثقل مجتمعي مهم بحكم العمر أو التعليم أو النفوذ العائلي والقبلي أو الإرث النضالي، ولذا يتم التعبير عن ذلك "إللي مالو كبير مالو تدبير"، و "إللي ما عندوش كبير يشتريله كبير".
ثالثًا: العادات والقيم المجتمعية، جزء أساسي من شخصيتنا كفلسطينيين، ومن ذلك علاقتنا بالعادات والقيم والمعتقدات التي صيغ مجتمعنا عليها بكل مفاصل حياته، وبنينا حولها ثقافة متكاملة لها أسس يأبى المجتمع هدمها، أو كسرها بشكل علني، ومن ذلك ما يتصل مثلًا بثقافة الموت وحرمة الميت ومكانة المقبرة، أو ما يتصل بمكانة المرأة وخصوصية جسدها وما يتصل به، أو ما يمكن التعبير عنه بالحيز الحميمي العائلي المرتبط بخصوصية البيت وحرمته.
رابعًا: لا ينفك أثر الرموز الحضارية المحسوسة المادية المرتبطة بالمدينة والقرية والوطن عن الإسهام بتَشكل هويتنا، كالمسجد الأقصى مثلًا، والمواقع التاريخية بما فيها المساجد العمرية والبيوت العثمانية والمراكز الثقافية والخرب والمعالم الأثرية والمتاحف ومباني الأرشيف، وكذلك الفضاءات العامة التي برز حضورها وتراكم أثرها في نفوس الأجيال ومنها الميادين العامة كالجندي المجهول في غزة، والمَنارة في رام الله، ومجسم الحصان في جنين، وغيرها. وأكثر من ذلك: فشكل المدينة أو القرية أو المخيم وطبيعة الشوارع وأنواع الأشجار والزراعات، وما يتصل بشكل المقاهي وشاطئ البحر وغيره، كل ذلك هو مما يشكل شخصيتنا وهوية المجتمع.
وعليه، إذا فهمنا بأن هذه النّقاط هي جزء أساسي من تشكيل وصياغة هويتنا المُتفردة كمجتمع فلسطيني عمومًا، وكمُجتمع غَزّي صلب حاضن للفعل المقاوم، سندرك لماذا يَستهدف هذا الاحتلال المتوحش المساجد التاريخية في مدينة غزة، ولماذا يجرف الأراضي الزراعية ويقتلع الأشجار، ولماذا يقتل الاحتلال الأكاديميين والباحثين ويلاحقهم بشكل مُتعمد كما في اغتيال الدكتور رفعت العرعير، وكذلك نسف المؤسسات التعلمية والجامعات وبث صورها على الملأ، ولماذا يُحرق الأرشيف وتُقصف المتاحف؟ ولماذا يجرف الاحتلال ويسرق مجسم الحصان من مدينة جنين، وميدان الجندي المجهول في غزة، ولماذا قام باستهداف المجموعات الشُّرطية والشبابية التي سعت لتنظيم الأحياء ومنع أي إخلال بالأمن العام في الشهر الماضي في شمال غزة؟ كل ذلك سيكون بالنسبة لنا مفهومًا، وسندرك بأن هذا الفعل ليس ردًّا عاديًا بدافع الانتقام، وإنما تخريب ممنهج لشكل المجتمع وبنيته وطبيعته في اليوم التالي للحرب.
هذا الاستهداف بكل أشكاله هو سَعي مدروس لهزيمة الفلسطيني الغزّي الرافض لوجود الاحتلال أو الحاضن لفكرة المقاومة
هذا الاستهداف بكل أشكاله هو سَعي مدروس لهزيمة الفلسطيني الغزّي الرافض لوجود الاحتلال أو الحاضن لفكرة المقاومة، هزيمة عسكرية ظاهرها القضاء على المقاومة، وهزيمة وجودية، وتخريب جذري لبنية المجتمع وتفكيك دقيق لخصوصية هويته، هو تخريب مُتقدم يستهدف هوية وطبيعة المجتمع الفلسطيني في السنوات القادمة، وعلى المدى البعيد، وذلك عبر إنهاء علاقة الغَزي مع المكان الذي ينتمي له ثقافيًا ووجوديًا، وكسر الهوية المتفردة لهذا المجتمع، ومن مظاهرها تدمير كل رموز الوجود الحضاري والتاريخي وانتهاك الخصوصية واستباحة الحيز الحميمي وفضحه، وإلغاء العلاقة مع المُقدس الديني التاريخي، وهز صورة البطل والرمز الشعبي وجرف ما يُذكر به أو يشير إليه، وتغيير معالم الأرض وما عليها من مزروعات وأبنية حتى تفقد الأجيال الحاضرة واللاحقة الذاكرة المكانية التي تُبقي على جذور العلاقة الروحية بينهم وبين بلدهم وحاراتها وشوارعها وبيوتها.
إلى المواجهة
إذا كانت المقاومة الفلسطينية تأخذ على عاتقها مواجهة الاحتلال وغطرسته بما تقدر عليه وَتستطيعه في غزة والضفة، فإن مهمة المجتمع الفلسطيني وخصوصًا المتعافي من آثار الحرب بشكل مباشر ولحظي كما في الضفة الغربية والشتات الفلسطيني، العمل إعلاميًا وثقافيًا ومجتمعيًا على تحصين المجتمع وصيانة الثغرات في جدار هويته وخصوصيته التي يتم اختراقها بفعل العمل الممنهج والمدروس لجيش الاحتلال ومؤسساته الاستعمارية في غزة بدرجة أولى، وفي القدس والضفة الغربية بدرجة ثانية، لأن آثار هذا الاستهداف والتدمير لن تقف عند حدود غزة، وإنما ستكون سببًا في تشوُّهنا الأبدي وهزائمنا التالية، وما نقدر على فعله اليوم ونتأخر عنه سندفع ثمنه لاحقًا أضعافًا مضاعفة، وكما قال المفكر علي شريعتي: "إن لم تكن حاضرًا في الموقف فكن أينما أردت، المهم أنك لم تحضر الموقف، فكن أينما شئت؛ واقفًا للصلاة أم جالسًا للخمر، كلاهما واحد".