01-نوفمبر-2017

سواءً كانت مصابيح السيارات المضاءة؛ أو آلافًا من تلك الملوّنة المتوهّجة من المقاهي الفاخرة أو الشعبية أو حتى عربات بيع المشروبات، فإن كل ذلك لا يُعطي انطباعًا لمن يزور غزة لأول مرة؛ أن شارع الرشيد الساحلي متأثرُ بأزمة انقطاع الكهرباء السيئة الصيت ليلاً.

فلهذا الشارع الشهير الممتد من شمال القطاع وحتى وسطه زبائن ليليين، لا يُمررون أيامهم إلا بقضاء ساعاتٍ طويلة في مقاهيه ومطاعمه من لحظة الغروب وحتى ساعات الفجر الأولى، وربما حتى السابعة صباحًا، خصوصًا في الكيلومترين الأكثر حيوية على امتداد غرب المدينة.

شارع الرشيد السياحي هو الأكثر حيوية في غزة ليلاً، فهو عامر بالمقاهي والمطاعم الفارهة، وقد يبدو لزائره أنه لا يتأثر بأزمة الكهرباء

رُوّاد تلك المقاهي صنّفوا أنفسهم - سواءً برغباتهم أو خارج إراداتهم - وفقًا لأمزجتهم أحيانًا، أو لحالاتهم المادية غالبًا، من خلال قضاء تلك الليلة في أمكنتهم المفضّلة؛ إما حول عربات بيع المشروبات الساخنة والذرة المشوية، أو في مقاهٍ شعبية أرقى توفر مشروبات ونارجيلة ووجبات خفيفة وإنترنت مجاني، أو في مطاعم فارهة بطرازٍ حديث مع فارق تقديم وجبات تكون المأكولات البحرية سيدة الموائد هناك.

اقرأ/ي أيضًا: الغزيون: عايشنا كل هذه القساوات.. متى تنتهي؟ 

هذه العربات المتحركة التي يملك مِرعيّ أبو سمعان (35 عاما) إحداها منذ خمس سنوات، لا تخْلو من الزبائن العمّال والموظفين الصغار، هروبًا من مشاكل الحياة اليومية بأقل عدد من الشواقل للبحث عن سعادة آنية.

ووفق أبو سمعان، فإن تلك السعادة قد تتحقق بصحبة العائلة، أو رفاقٍ من ذات الطبقة الاجتماعية أو المادية. يقول: "أنا أشعر بهؤلاء من استماعي لأحاديثهم وضحكاتهم النادرة، ويأتي دوري لأضفي مزيدًا من لحظات الفرح لهم بتقديم القهوة بالحليب أو أعواد الذرة أو معكرونة النودلز المسلوقة".

ويعتقد روّاد هذا الطريق الساحلي، أن مجاورة البحر كفيلة بتحسين أمزجتهم –ولو مؤقتًا- في ظل أزمات متعددة يعيشونها، مثل اجتزاءٍ بالرواتب، وأزمة كهرباء لا تنتهي، وانتهاءً بالمنع من السفر.

"فنجان قهوة كرتوني مُغلف بشعار ستاربكس، أو قطع من البطاطا المغطّاة بذرات القرفة والسكر، قد لا تشبع حاجتك لبعض السعادة، لكن على الأقل أحاول وأصدقائي صُنعها بأقل ثمن لا يتجاوز خمسة شواكل (1.5 دولار) شاملةً سيجارة وكرسي قرب البحر". يقول محمد فودة (20 عامًا) لـ"ألترا فلسطين".

وبالانتقال من الرصيف الغربي إلى الشرقي، ستشعر بفارق كبير بين تلك الأمتار العشرين. حيث تشدك لافتات مضيئة مثل "الشراع"، "اسطنبول"، "قهوتنا"، "هوكا"، "حبيبة كافيه"، "العُمدة"، "كوفي تايم"، وغيرها تصطف متلاصقةً بأضواءٍ جذابة ومليئة بزبائن باحثين عن السعادة من نوعٍ آخر.

في أحد هذه المقاهي المتوسطة الخدمة، سترى المئات من المشغولين بسحب سباباتهم صعودًا ونزولاً على هواتفهم النقالة، وآخرين يمارسون لعبة "بيس" الافتراضية لكرة القدم على حواسيبهم، ومجموعات أخرى على طاولات النرد والشطرنج وأوراق العلب.

نسبة حضور الإناث والعائلات في مقاهي شارع "الرشيد" صفر حقيقي، فأجواؤها لا تناسب هذه الفئات

ورغم الخدمة الجيدة التي تقدمها هذه المقاهي، إلا أن نسبة حضور الفتيات أو العائلات إلى هنا صفر حقيقي. ربما لأن أجواء المباريات المعروضة على الشاشات الكبيرة، وأدخنة النيكوتين، وتقارب المقاعد الخيزرانية، والتحفظ الاجتماعي، والضجيج اللامتناهي، لن تكون عناصر جذبٍ لتلك الفئة المحرومة من معايشة تلك الأجواء الذكورية البحتة.

 

أسعار المشروبات المقدمة في هذه الفئة من المقاهي 7 شواكل، وضعف ذلك للساندويش الواحد، الذي عادةً ما يكون محشوًا بأصناف الدجاج المتبّلة؛ إلا أنها تستهوي الكثير من الزبائن، خصوصًا أثناء عروض مباريات الأندية الإسبانية. لكن لا تحاول الانفعال سلبًا إذا رفضت إدارة المقهى استقبالك لتكدس الحضور إذا ما عُرضت تلك المباريات المسائية.

اقرأ/ي أيضًا: الدجاج والحبش أولا في غزة.. واللحوم الحمراء للمناسبات

فالواجهات الزجاجية العملاقة، وتوفر خدمة الانترنت المجاني، والأسعار المقبولة لهذه الفئة من الشبان، قد تجعل من تلك المقاهي مأوىَ ليليًا لهم، فهم عادةً إما عاطلين ميسورين، أو موظفين من مستويات متفاوتة، وإذا ما سنحت فرصةُ لاستراق السمع منهم، فإن التخطيط للسفر إلى تركيا أو شمال أوروبا هو الحديث الأكثر طُغيانًا.

لؤي عيسى (25 عامًا) يعُدُّ نفسه أحد الزبائن الليليين لمقهاه المفضّل، يقول إن الأفراد يمنعون أنفسهم لا إراديًا من ممارسة السعادة، ربما بسبب الأجواء السياسية المحيطة، "إلا أنه وبمجرد حلول الثانية فجرًا ودفع فاتورة طلباتك وخروجك إلى الشارع ستنتهي تلك النشوة، وستلاحقك مشاكل الحياة إلى وسادتك".

ويضيف عيسى لـ"ألترا فلسطين"، أن من يقضون لياليهم من الشبّان هنا قد يحاولون تقليد نظرائهم في دول العالم، اعتقادًا منهم أن تناول مشروبهم أو الاستمتاع بوجبة طعام، قد تمنحهم سعادةً لحظية، لكن شبّان غزة في الحقيقة بحاجة إلى الشعور بالاستقرار ورضا النفس وضمان المستقبل، ولن يتحقق ذلك حتى لو ارتادوا أكثر الأماكن ترفيهًا في باريس.

وصعودًا إلى الطوابق العليا على ذات الشارع، تبرز أسماء أجنبية تدل على مطاعم فارهة، مثل: "بلو بيتش"، "لايت هاوس"، روتس"، "ليفل أب"، "آرك ميد"، ولها أيضًا مرتاديها، وهؤلاء يُطلق عليهم "البرجوازيون"، ويُزعم أن أجورهم الشهرية تفوق الـ 1500 دولار.

"البرجوازيون" كما يسميهم أهل غزة، لهم مطاعم خاصة يرتادونها، لكنهم يرفضون هذا اللقب، ويقولون إن هموهم لا تنفصل عن بقية الغزيين

في مطعم "لايت هاوس"، التقيتُ أحد أولئك "البرجوازيين"، ويعمل تاجرًا للسيراميك برفقة شريكه من رام الله، وقد بلغت قيمة طلباتهم 250 شيكلاً (71 دولارًا)، لكنه لم يكن سعيدًا بذلك "اللقب".

يقول: "من قال إننا أكثر سعادة من غيرنا في غزة؟ جئنا الليلة لنقاش أزمة سندات مصرفية مُرجعة، وخسائر بمئات الآلاف جراء التنافس غير الشريف الذي يتزعمه تجّار منافسون".

التاجر وصديقه أكدّا أنهما لا يُفكران بساعة العودة إلى المنزل أو الفندق؛ فهنا يمكنهما الاستمتاع بأجواء استثنائية، مثل ترحيب إدارة المكان، وأسلوب تقديم الوجبات، والنكهة الغربية التي تزيد من اتساع حدقة العين لهذه الحفاوة والطعم، فيما تُختتم هذه السهرات بتدخين النارجيلة الفاخرة التي تبلغ تكلفتها 20-30 شيكلاً للواحدة.

قد تكون هذه الأجواء الليلية التي يقضيها روّاد شارع الرشيد الذي تم تطويره على نفقة الحكومة القطرية، مختلفة من حيث مستوى ومضامين جلسات السّمر، لكن شيئًا واحدًا يمكن أن يُعكر فجأةً صفو تلك الليالي وتجبر أغلبهم لعودة أدراجهم: إنها نسائم الصرف الصحي المنبعثة من البحر الذي لا يهدأ.


اقرأ/ي أيضًا: 

في بلادي يخافون ولادة الأنثى ويعزون أهلها

قصار القامة في غزة: صناعة الضحك تخفي وجعا

"وطي صوتك.. كل غزة سمعاك"