14-يناير-2023
متظاهر يرتدي قلادة على شكل خريطة فلسطين، خلال احتجاج على اعتراف الرئيس الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، في سانتياغو بتشيلي. (Getty Images)

متظاهر يرتدي قلادة على شكل خريطة فلسطين، في سانتياغو بتشيلي. (Getty Images)

في زمن التطبيع، أصبح الحديث عن دعم القضية الفلسطينية أشبه بالسباحة عكس التيار، وعند الحديث عن دعم الشعب الفلسطيني لا بد من استحضار تشيلي تلك الدولة الصغيرة الموجودة في أمريكا اللاتينية، والتي قدّمت الدعم منذ سنوات طويلة، حيث أصبحت فلسطين قضية للسياسيين التشيليين ومنهم غابرييل بوريك المنتمي إلى الحزب الشيوعي، والذي أصبح أصغر رئيس في تاريخ تشيلي، والمعروف بنقده "إسرائيل" منذ كان نائبًا في البرلمان، حيث أيّد مشروع قانون يقترح مقاطعة البضائع الإسرائيلية من المستوطنات في الضفة الغربية والقدس والجولان المحتلة، معتبرة "إسرائيل" دولة فصل عنصري، ورغم أن تشيلي ليست دولة عربية، وبوريك ليس حاكمًا عربيًا، إلّا أنها اختارت أن تكون في جهة فلسطين.

الدعم التشيلي المستمر يعطي الأمل للشعب الفلسطيني بوجود مناصر وفيّ لقضيتهم رغم خناجر التطبيع 

اللافت في مجريات هذا الدعم أنه يأتي في صورة لم نعتد عليها سابقًا في ظل تطورات غيّرت معالم السياسات المنتهجة تجاه القضية الفلسطينية، فعلى مدار السنوات الماضية لم تتأخر تشيلي في إظهار مواقفها المشرّفة والتي كان آخرها تعهّدها برفع مستوى تمثيلها في الأراضي الفلسطينية إلى سفارة، وهو الموقف الذي يحمل دلالات سياسية بالغة الأهمية، ما يعني أن التمثيل الدبلوماسي لدولة تشيلي في فلسطين سيكون بشكل رسمي.

ومن جهة أخرى ينظر الفلسطينيون إلى قرارات فتح سفارات الدول في رام الله بأهمية كبيرة، إذ يعتبرونها تعزيزًا لحقِّهم في إقامة دولة فلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وهي الخطوة التي لم تتجرأ دول عربية قريبة على اتخاذها، في حين تتهافت بعضها إلى التطبيع مع الاحتلال وتتراقص على أوجاع الشعب الفلسطيني، ورغم قرب المسافات وتقاسم الهوية العربية والقومية إلّا أن ذلك لم يكن كافيًا للوقوف في صف فلسطين ونصرتها.

ربما يقول أحد: إنّ نظرية دعم القضية الفلسطينية من تشيلي لم تكن بنيّة صافية؛ فالضرورات السياسية ومتطلّباتها تلزم أحيانًا أخذ طريق مغاير. فيما يقول آخر إن الدفاع عن فلسطين ضروري؛ فنسبة الفلسطينيين في تشيلي ليست قليلة، إذ تستضيف هذه الأخيرة أكثر من 400 ألف مهاجر فلسطيني حطّت بهم الأقدار وطغيان الاحتلال وتهجيره لهم، على الأراضي التشيلية.

الإجابة عن النظرية الأولى تلزمنا بأخذ تاريخ دعم تشيلي للقضية الفلسطينية، والذي برز منذ اعتراف هذه الأخيرة بفلسطين كدولة ذات أبعاد وسيادة سنة 2011 وغيرها من المواقف التي تبنتها في ذلك، وصولًا إلى رفض الرئيس التشيلي غابرييل بوريك منذ أشهر تسلّم أوراق اعتماد السفير الإسرائيلي الجديد رغم وصوله إلى الموقع المخصص لمراسم اعتماده، ليضرب بذلك كل البروتوكولات الدبلوماسية عرض الحائط ويقدّم صفعة قاسية في وجه الاحتلال. 

هذا الموقف الذي تصدّر عناوين أكبر الصحف والمحطات العالمية بالصوت والصورة، كان كفيلًا بإدخالها في مشاكل دبلوماسية مع دولة الاحتلال، أي أنها لم تستفد من دعمها لفلسطين شيئًا، ما يثبت أن دعم القضية الفلسطينية مبدأ تتبناه السياسة التشيلية وتعمل به. 

وفي سياق آخر، اشتهرت الاتجاهات اليسارية (الحاكمة الآن في الشيلي) بنصرة القضايا التحررية عبر العالم، ونبذ سيطرة الإمبريالية الأمريكية الداعمة للدول المستعمرة في كل مجريات الحياة، ما يفسِّر السبب الحقيقي وراء الدعم المستميت من الحكومات اليسارية التي حكمت تشيلي، لفلسطين وقضيتها. ومن جهة أخرى وللإجابة عن النظرية الثانية وبمعادلة رياضية بسيطة يمكن من خلالها معرفة أن نسبة الفلسطينيين المقيمين في دولة التشيلي لا تتعدى 2 في المئة من مجمل السكان البالغ عدده 19 مليونًا، وهي نسبة قليلة جدًا لأن تتخذ كمرجع لدعم قضية كاملة أو تؤثِّر في انتخابات بحجم الانتخابات الرئاسية.

ربما لا تملك تشيلي مكانًا ومركزًا قويًا في الساحة الدبلوماسية والسياسية العالمية، ولا تقدّم ذلك الدعم المالي الكبير للفلسطينيين، إلّا أن دعمها المستمر للقضية الفلسطينية يعطي الأمل للشعب الفلسطيني بوجود مناصر وفيّ لقضيتهم رغم خناجر التطبيع والمنساقين وراء الاتفاقات الإبراهيمية، الذين خانوا العهد والأمانة. 

إن الدعم مهما كان يبقى مهمًا، ويفسّر تطبيع الاحتلال لعلاقاته مع دول تكاد تكون غائبة كإريتريا والتشاد، فقط لأنها تعي أنّ أي دعم يمكن أن يخدم مصالحها. 

بالإمكان القول إن الوقت قد حان للاستفاقة من وهم التطبيع، ومراجعة الحسابات والمواقف وإرجاع القضية الفلسطينية لمسارها الصحيح، ورمي كل الاتفاقيات المكتوبة على حساب دماء شهداء فلسطين في مزبلة التاريخ.