05-أكتوبر-2022
تسول

ما دمت تسير في شوارع غزة، فلن يفلتَ طرف ثوبك من الشدّ فجأة، وتعثيرك رغمًا عنك، يتلوه انهمار أدعية لا تتوقف حتى تستجيب. وفي حال لم تستجب، فإنك ستتعرض للسخرية أو انتقاد شكلك، أو الشتم، أو حتى الدعاء عليك بالحرمان والمرض. وفي بعض الحالات، يمسك أطفالٌ متسولون بأقدام نسوة في الطرقات رافضين إفلاتهن إلا بعد الاستجابة لطلبهم.

إن وقفت في إحدى المفترقات المعروفة كالسرايا وسط المدينة أو غيرها، ستجد نفسك وقد علقت فورًا داخل شبكة عنكبوتية، بين كل متر وآخر، يداهمك طفل أو شاب أو امرأة أو مسن، وكأنك تُسلَّم من يد متسولٍ إلى يد الآخر

مثلا؛ إن وقفت في إحدى المفترقات المعروفة كالسرايا وسط المدينة أو غيرها، ستجد نفسك وقد علقت فورًا داخل شبكة عنكبوتية، بين كل متر وآخر، يداهمك طفل أو شاب أو امرأة أو مسن، وكأنك تُسلَّم من يد متسولٍ إلى يد الآخر.

كنت عائدة إلى بيتي حين لاحقني طفلٌ متسولٌ معظم الطريق، وبعد صعودي للسيارة، وقف الطفل أمام السيارة لمنع السائق من السير، ولم يتزحزح إلا بعد أن أمسكوه المارة وأبعدوه عن الطريق، لكن لسانه لم يتوقف عن الشتم.

وبموقفٍ مشابه مرت به سمية قاسم (40 عامًا)، تقول إنها حينما  كانت تستخدم أحد الصرافات الآلية، التصق بها فجأة طفلٌ متسولٌ يطلب منها ومن كل مستخدمٍ للصراف أن يُعطيه المال، وفي حال لم يعطه يدعو عليه أن يشتري بتلك الأموال دواءً وألا ينتفع بها أبدًا.

بينما الشابة هيا العزاوي (18 عامًا) قالت إنها كانت تتواجد في السيارة على أحد المفترقات، لتُفاجأ أن أحد الصبية المتسولين قد أدخل نصف جسده من النافذة بشكل مفاجئ "وأرعب من بداخلها" حسب تعبيرها، مضيفة أنه بقي متمسكًا بالسيارة حتى بعدما تحركت، وهو يُردد بأنه لن يُفلت السيارة حتى يُعطيه أحد الركاب بعض المال.

أما أحمد مشتهى (30 عامًا)، الذي كان يرتدي نظارة طبية، فقد كان نصيبه في البداية أن يدعو الطفل المتسول له بحفظ نظره، وحين لم يعطه سؤله كان الدعاء عليه جاهزًا: "الله يحرمك من نظرك". ويروي أن أحد أصدقائه دعا عليه الطفل أن يصاب بالسرطان ولا يُشفى منه أبدًا.

واللافت هنا أنه في حال استجابة أحد المارة للمتسول ومنحه بعض النقود، سيُفاجأ بعدد كبير من الأطفال ظهروا من أماكنهم القريبة والتفوا حوله فجأة طالبين أن يعطيهم كما أعطاه، وإلا فإنهم سيؤنبونه على فعله "غير العادل".

اللافت هنا أنه في حال استجابة أحد المارة للمتسول ومنحه بعض النقود، سيُفاجأ بعدد كبير من الأطفال ظهروا من أماكنهم القريبة والتفوا حوله فجأة طالبين أن يعطيهم كما أعطاه، وإلا فإنهم سيؤنبونه على فعله "غير العادل"

أثناء بحثي في هذه الظاهرة، التقيت أربعة أطفال متسولين في ثلاث مناطق في مدينة غزة، وسألتهم عن دوافع تسولهم واستخدام هذه الطريقة، فاستمعت لإجابات متشابهة بأن "الوالد مريض"، أو "عاطلٌ عن العمل"، وأن "ظروف الأسرة صعبة جدًا"، وهم يتسولون لتوفير ما يسد رمق الإخوة الأصغر سنًا.

أحد هؤلاء الأطفال رفض اصطحابنا إلى منزل عائلته بعد أن عرضنا عليه تقديم مساعدة عينية للأسرة، ومع إلحاحنا الشديد على مرافقة الطفل، اضطر لإخبارنا بشيء من الحقيقة: "أنا لو ما روحت على الدار معي 50 شيقل أبوي بكسّرني".

الأخصائية النفسية ومستشارة العلاقات الأسرية سمية أبو حية أرجعت أسباب هذه الأفعال إلى وجود الأطفال المتسولين في بيئة لا تتوفر فيها عملية التربية الصحيحة، وتوجيه الأطفال وتعديل سلوكياتهم، مبينة أن الشتم والاستفزاز وأحياناً الإيذاء هي فعليًا الطريقة التي يتعرضون لها داخل الأسرة.

وأوضحت أبو حية، أن الطفل المتسول، تحت الضغط الذي يتعرض له، يسلك أي طريقة يرى أنها قد تتيح له الحصول على ما يريده من مال، ليُجنب نفسه الإيذاء النفسي والجسدي من عائلته.

وتابعت: "في بادئ الأمر يكون التأثير النفسي على الطفل كبيرًا جدًا، فلا يكون سعيدًا مطلقاً بما يفعل، وهذا ما تلمسه في بعض الأطفال الذين إذا رفضتَ لهم طلبهم يذهبون سريعًا، وهؤلاء حديثي العهد بالتسول، لكن بعد فترة من الوقت يتشبع الطفل ويصبح ملحًا في طلبه ويستخدم أي طريقه تناسبه كي تعطيه المال".

ونوهت أن الأطفال المتسولين حرموا من طفولتهم وكرامتهم والالتحاق بمدارسهم، وحتى من توفير لقمة عيشهم، فتُلقى مهمة توفير المصاريف اليومية للعائلة على كاهلهم، أو أن يُعنّفوا بشكل سيء جدًا، فيكبرون قبل أوانهم.

"في بادئ الأمر يكون التأثير النفسي على الطفل كبيرًا جدًا، فلا يكون سعيدًا مطلقًا بما يفعل، وهذا ما تلمسه في بعض الأطفال الذين إذا رفضتَ لهم طلبهم يذهبون سريعًا، وهؤلاء حديثي العهد بالتسول، لكن بعد فترة من الوقت يتشبع الطفل ويصبح ملحًا في طلبه"

وأعربت عن اعتقادها بأن مثل هؤلاء الأطفال يكبرون في بيئة خصبة لارتكاب أفعال أخطر من التسول، مثل جرائم السرقة التي تستهدف محلات تجارية أو دراجات نارية، وأحيانًا تجارة المخدرات.

وترى أبو حية أن تأثير ظاهرة التسول سيئ جدًا على المجتمع، كما لها تأثيرات نفسية على كل شخص في المجتمع، "لأنك في كل مكان ستجد المتسولين يلاحقونك، في الشارع، في المطعم، في السوق، على أبواب المساجد (..) والأمر لا يتوقف على قصة الشيكل الذي تعطيه لهم حاليًا، بل يمتد أثره حين يصبح هؤلاء الأطفال شبانًا، فينحرفون ويصبحون عبئًا على المجتمع".

ونفذت وزارة التنمية الاجتماعية في قطاع غزة حملة شاملة في شهر أيلول/سبتمبر 2019، بالشراكة مع وزارات أخرى، "لمعالجة" ظاهرة تسول الأطفال واستمرت لنحو 6 أشهر، لكن، وفقًا للناطقة باسم الوزارة عزيزة الكحلوت، فإن جائحة كورونا وما تلاها من العدوان الإسرائيلي على غزة في أيار/مايو 2021 عطل مسار الحملة، نتيجة ظهور أولويات جديدة لدى الوزارة، كالعمل على مساعدة متضرري كورونا، وكذلك الأسر التي تضررت بفعل العدوان.

ستبدأ الوزارة في شهر تشرين أول/أكتوبر الحالي مشروعًا لحصر وضبط المتسولين عبر تحديد أماكن ارتيادهم، وإحالتهم للنيابة ومراكز التوقيف، وتفعيل الأحكام القضائية ضد المتسولين الممتهنين

وتبين الكحلوت لـ الترا فلسطين أنه خلال الحملة السابقة تم توقيف عدد من المتسولين، وتحويل بعض الأطفال إلى المؤسسات الإيوائية مثل مركز الربيع وبيت الأمان، إضافة إلى توقيع أهالي الأطفال على تعهدات بعدم عودتهم للتسول مجددًا، وإضافة بعض الحالات على برامج الشؤون الاجتماعية.

وكشفت أنه -ضمن مشروع حكومي شامل- ستبدأ الوزارة في شهر تشرين أول/أكتوبر الحالي مشروعًا لحصر وضبط المتسولين عبر تحديد أماكن ارتيادهم، وإحالتهم للنيابة ومراكز التوقيف، وتفعيل الأحكام القضائية ضد المتسولين الممتهنين، وكذلك توفير بيئة حاضنة للمتسولين الأطفال.

ونوهت الكحلوت أن الوزارة تعمل على التدخل النفسي والاجتماعي من خلال جلسات إرشاد فردي للمتسولين، وكذلك جلسات إرشاد للأسرة تتضمن أنشطة ترفيهية خاصة بالأطفال، وكذلك التدخل الاقتصادي عبر توفير فرصة عمل لرب الأسرة، وصرف مساعدات نقدية، وإلحاق الأطفال بمراكز التدريب المهني.