16-أغسطس-2018

في عالمٍ ذوّاق شغوفٌ بأساليب الضيافة المعاصرة ومتعطّشٍ للنكهة المتجددة التي تتميز بها وصفات الأطعمة الشرقية والغربية، كان لأهالي قطاع غزة نصيبٌ من ذلك الاهتمام اللامتناهي بحثًا عن بعض "السعادة الآنية" التي تصنعها لمحبي تناول الغداء والعشاء خارج المنزل.

وبعيدًا عن الحالة الاقتصادية المتردية التي تعيشها غزة منذ 12 سنة، إثر الحصار المُحكم؛ إلا أن للغزيين فسحة لا يُستهان بها يُخصصونها لقضاء ساعاتٍ في مطعم فاخر أو مطعم فندقي فاره لتناول ما استُجد على قوائم الطعام.

لكن ذلك التجديد بحاجة إلى جهدٍ استثنائي يتطلب من "الشيف" تحديث قوائم وصفات مطعمه ليحتفظ –على الأقل- فيما تبقى من زبائنه الذوّاقين، وهو ليس سهلاً على الإطلاق في ظل نُدرة تواصلهم وعُزلتهم عن نظرائهم من الطُهاة العالميين.

"الترا فلسطين" التقى نُخبة من هؤلاء الطُهاة ونزل إلى رُدهات مطابخهم التحت أرضية وتحاور معهم حول ما اضطروا إلى فعله لـ"انتشال" منشآتهم السياحية من مزيدٍ من التدهور.

اقرأ/ي أيضًا: المفتول: طبخة النَّبي سليمان!

"الشيف" إبراهيم الرفاعي، يعتبر نفسه أحد ثلاثة طهاة مُتمرّسين في غزة ممن عملوا في المطاعم العربية والإسرائيلية واكتسبوا خبرة أكثر من ثُلث قرن في أصول الفندقة وطرق الطهي الحديثة وأساليب التقديم العصرية.

لكن الرفاعي (57 عامًا) الذي يعمل في مطبخ المقرّ الرئيس بوكالة الغوث، بدأ صناعته الشهية منذ 36 عامًا كعامل تنظيف في فنادق شهيرة في "إسرائيل"، انقطع عمّا استُحدث في المطاعم العالمية، ولم يتبقى له سوى التعلق بمقاطع مصوّرة على تطبيق "يوتيوب" وتطبيق ما شاهده لإضافته إلى قائمته.

[[{"fid":"73322","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":640,"width":480,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

"أستقبل نحو 100 زبون عربي وأجنبي يوميًا في مطعمي، وهم أشخاصُ ذوّاقون وكثيرو الترحال، لذا فإن تفهّم جنس ونفسية الزبون سرٌ مهم في كسب قلوب هؤلاء قبل دغدغة مشاعر مَعداتِهمْ، وإدراك كيفية تقديم الوجبات لموائدهم". يقول "الشيف" الرفاعي.

ويضيف: "الزبائن الإناث مثلاً يهوون الأطباق الغنية بالخضار وقليلة السعرات الحرارية للحفاظ على قوامهن، فيما يُفضل الرجال الوصفات الدسمة الغنية بشرائح اللحم شبه الناضجة والمكسوة بالجبنة والزبدة والصلصات الحرّيفة".

  تُعد غزة حديثة العهد بعالم الضيافة الفندقية والمطعم، فحتى العام 1994، لم يكن في القطاع سوى مطعمٍين على ساحل البحر فقط   

ويعتقد الرفاعي الذي يُجيد الإنجليزية والألمانية والعبرية والألمانية والفرنسية أن على "الشيف" المبتَكر في غزة التضحية بالمال والأجر الزهيد مقابل التعامل مع زبائن راقين يُدركون ثقافة الطعام وأصول تناوله ويُشجعونه على حب حرفته، "على عكس بقية المطاعم الجديدة التي تبحث عن الكسب المادي السريع على حساب الخدمة المتدنية".

ويرى أن في غزة نحو 300 أسرة مُترفة يُشكلون عماد مطاعم الدرجة الأولى كزبائن دائمين يتمتعون بخصومات واشتراكات شهرية.

ولا يُخفي هذا الطاهي والأب لأربعة أبناء، عشق زوجته له قبل زواجه بها وقبل أن تراه أصلاً بعد أن تذوقت غداءً أعدّه في زفاف شقيقته. حين سألت عن "شيف" الحفلة، فأجابتها حماتها –حاليًا- أن نجلها إبراهيم هو الجواب، وما لبثت أن طلبت رؤيته ونشأت بينهما قصة غرامية ابتدعت مقولةً جديدة أن "أقصر الطرق لقلوب الفتيات هي معداتهن".

اقرأ/ي أيضًا: في مُدونة "الشيف المُتنكر" القصة تزيّن الطبق

أمّا "الشيف الواعد" الشاب خالد السويطي مُلهمٌ بشخصية الطاهي الأسكتلندي "غوردون رامزي"، أحد أكثر الوجوه المعروفة في عالم الطهي في العالم، ويملك مطاعم في سبعة دول وله العديد من المؤلفات في الطهي.

لكن السويطي (26 عامًا) والذي يعمل بصحبة معلمه الرفاعي لدى والده الذي تعلم أيضًا علوم الفندقة في باريس، يعتقد أن الطُهاة الصغار عبارة عن مواهب مدفونة في غزة وليس أمامهم سوى تقليد ما يُشاهدونه على قنوات الطبخ المتلفزة.

[[{"fid":"73323","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":360,"width":640,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

"أحرص على مشاهدة كل أسرار الأكل وطرق تقديم الطعام وسحر الأطباق الرخامية البيضاء وطرق إعداد السلطات واللحوم.. أما أن ألتحق بدورة محلية أو خارجية فهذا شبه مستحيل في غزة بسبب الحصار وانعدام فرص السفر أو حتى إيجاد راعٍ مُمول". يقول السويطي الذي بدأ حرفة صناعة الطعام الفندقي منذ 8 سنوات.

"الشيف" جمال صُبح هو الآخر يُدير مطبخ مطعم "ليفل آب" في الطابق الـ 11، يؤمن أن سرّ نجاح رفاقه في المهنة هو "النَفَسْ" الخاص الذي يُضفيه الطاهي مع كل رشة بهار أو تقليب ملعقة أو رشقة زيت.

ويضرب صبح الذي كان يومًا سفيرًا للأكل الفلسطيني في طوكيو، مثلاً قائلاً: "أكلة حرق أصبع البسيطة (مكونة من العدس، العجين أو المعكرونة، البصل، دبس الرمان، زيت الزيتون، بهار أسود، والملح) ستكون شهية إذا تم إعدادها بنَفَسٍ مفعم بالحب، فيما سيكون الخروف المشوي مقززًا إذا فقد مُعدُّهُ تلك الحاسّة. فالزبائن في غزة بحاجة إلى بعض السعادة اللحظية جراء ما يُعايشونه من كبتٍ طال أمده بسبب كتل المشاكل السياسية الغارقين فيها".

أما بشان احتفاظه بما تبقى له من الخبرة في إعداد الأطعمة، فيتبع "الشيف" صُبح استراتيجية الاحتفاظ بأجواء وُديّة مع طاقم عمله في المطبخ ذو الرائحة الفوّاحة. "أن تصنع جوًا مرحًا بين النادلين والطهاة يعني أن تحتفظ بالابتكار في الإعداد وفن التقديم، لينتهي إلى موائد زبائن توّاقين لما ستُقدمه لهم بعيدًا عن الربح.

[[{"fid":"73324","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":360,"width":640,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]

اقرأ/ي أيضًا: "المعلاق" وجبة الخليل السحرية كل صباح

وإلى شمال المدينة، يقع فندق "آرك ميد" الشهير بردهاته وطوابقه المتعددة والمفضل للوفود الأجنبية، حيث لا بُدّ من "شيف" قادر على قراءة أذواقهم، "وإلا سينتقدونك ويلغونك من مخيلتهم إذا شعروا بالجوع في إقامتهم المُقبلة". يقول ماهر قدّورة.

رحلة الطاهي قدورة في عالم الطهي وصولًا إلى إدارة أكثر مطابخ الفنادق رفاهيةً في غزة لم تكن "طريّة" كما يقول. فقد بدأ منظفًا للأطباق وصانعًا للسلطات في بعض فنادق القاهرة وعمّان الشهيرة منذ العام 1988، لكن جنسيته الفلسطينية لم تكن موضع ترحيبٍ له لتطوير قدراته، حتى اكتشفها مرافقو الرئيس الراحل ياسر عرفات وطلبوا منه أن يكون "طباخ الريّس" في محل إقامته في غزة.

ولـ"الشيف" الأخير، رأي آخر في الزبائن المحلييّن؛ حيث يعتقد أن الزبون في غزة ليس ذواقًا ويخشى تجريب وصفات جديدة، ولا يثق إلا في وجبات تناولها عشرات المرات في أماكن أخرى.

[[{"fid":"73325","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"4":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":360,"width":640,"class":"media-element file-default","data-delta":"4"}}]]

ورغم اعتماد المطعم هناك أعلى المعايير العالمية في الطهي والتقديم –وفق قدروة-، إلا أن "مُنغصّات" تفرض نفسها دائمًا في غزة، كالحاجة إلى تيّار كهربائي متواصل لحفظ الأطعمة، عدا عن ندرة بعض المكونات الأساسية في السوق المحلي، وانعدام فرص التدريب لطاقم الطهاة المساعدين له.

ويُجمع هؤلاء الطهاة أن فن خدمة الزبائن وتفهم احتياجاتهم وتحديث خبراتهم من قنوات "يوتيوب" والقنوات التلفزيونية المتخصصة هي آخر ما تبقى لهم من أرصدة تحفظ ما تبقى من ماء وجه السياحة في هذا الجيب الساحلي الضيّق.


اقرأ/ي أيضًا:

نكهات عربية فواحة داخل "حصون" غزة

ورق العنب والحمص والتبولة.. طعام إسرائيلي!

فيديو | فطائر السبانخ.. وجبة الشتاء المفضّلة

فيديو | هل تثق بما تأكل؟