15-نوفمبر-2023
النكبة المستمرة والتهجير من فلسطين

palestine

تَشهدُ الضّفَة الغَربية عُمومًَا والمناطق المُصنفة بأنها مناطق "ج"، حسب اتفاق أوسلو، حالة استيطان مَسعورة في السنوات الأخيرة، حيث أطلقت دولة الاحتلال كل أدواتها ومؤسساتها لأجل تكثيف السيطرة على الأرض، وتفريغ الأغوار ومناطق "ج" من الوجود الفلسطيني بحجج وذرائع متنوعة.

وخلال عام 2023 أجبر سُكّان عِدّةِ تَجمّعات فلسطينية على الرّحيل وترك مناطق الرّعي والإقامة بفعل تتابع الهَجمات وتكثيف الاعتداءات من قبل المُستَعمِرين، فرُحّل البَدو والفلاحين الذين يَعيشون على تربية الأغنام والمواشي تِباعًا من تجمعات: إفجم، المَناخير، راس التين، عين سامية، وادي السيق، وتشتدُّ الهَجمة الآن على تجمّعات مَسافر يطا جنوب الخليل، في استمرار لذات السياسة المُمنهجة، والحال ذاته مع قرى سلفيت التي تتعرض لأخطر هجمة استعمارية في الضفة الغربية منذ سنوات.

المستوطنون يسعون باستمرار إلى الدفع بـ"النكبة مُستمرة"، ودفعها إلى حدها في منطقة مسافر يطا جنوب الضفة الغربية

الاستعمار الرعوي.. أداة الترحيل الجديدة 

انتشرت في 20 عامًا الماضية طريقة استعمارية جديدة تهدف للسيطرة على الجُغرافيا بالتّدرج، سَيطَرةٌ تَتقدمُ على الأرض وتنزع الوجود الفلسطيني منها، وهي ما يُعرف حاليًا باسم الاستعمار الرعوي، حيثُ يندفع المُستعمرون الصهاينة مدعومين بأدواتُ البطش والإرهاب لإقامة تجمعات صغيرة بالقرب من التجمعات الفلسطينية ذات الطابع البدوي، إذ يَعمد أحدهم هؤلاء المستعمرين لنصب خيمته في أي بقعة تحلو له من الأراضي الفلسطينية ضمن خطة وتصور استعماري واضح، مُقتنيًا قطيعًا من الأغنام أو الأبقار، وينطلق من خلالها لترسيم حدوده ومنطقة رعيه الخاصة، التي يُمنع الفلسطينيون من الوصول إليها، وفوق ذلك كلّه، يقوم هذا المُستعمِر برفقة العشرات من العصابات المُسلحة بمهاجمة التجمعات والقرى الفلسطينية القريبة منهم، والاعتداء عليها، مُشكلين حالة رُعب وعدم استقرار لهم، فيما ينفذون كل ذلك بحماية وغطاء من مؤسسات دولة الاحتلال العسكرية والأمنية. 

وقد بدأت هذه الظاهرة الاستعمارية تأخذ شكلًا مُنظمًا في السنوات الأخيرة مسنودة بعصابات تدفيع الثمن وفتية التلال، الذين يُشكلون جيشًا شِبهَ مُنظَم، مُستَعدًا للهُجوم ومباشَرَةِ الاعتداءات على أي تجمع فلسطيني أو قرية تُشكل "عائقًا" أمام مشاريعهم الاستعمارية التي تتوسع بشكل ممنهج في الضفة الغربية. 

وقد ولدت هذه الظاهرة الاستعمارية كشكل منظم في شمال ووسط الضفة الغربية، ومع الحماية والتغطية على جرائمهم تمكنوا من تغيير واقع ملكية الأرض والسيطرة عليها وخصوصًا بالقرب من المستعمرات والطرق الالتفافية، وفي المناطق المصنفة بأنها مناطق "ج" في الأغوار وشفا الغور، بل في بعض الحالات تمكنوا من السيطرة على سهول وأراضي في مناطق "ب" كما في سهل يانون جنوب شرق نابلس. ولم تفلح كل الجهود الفلسطينية عبر اللجوء للقانون والمحاكم ومحاولات التصدي الفردية في منع هذه الظاهرة من السيطرة على الأرض، لأن لها طابعًا منظمًا ومحميًا من الدولة.

في مسافر يطا جنوب الخليل بدأت ظاهرة الاستعمار الرعوي، بشكلٍ متأخر بالنسبة لما شهدته مناطق وسط وشمال الضفة الغربية، حيث كان واضحًا المسار الذي تمددت فيه هذه الظاهرة من بؤرتها الأساسية في مستوطنة إيتمار المُقامة على أراضي يانون في جنوب شرق محافظة نابلس في تسعينات القرن الماضي وصولًا لأقصى جنوب الضفة الغربية في مسافر يطا في العام 2021 تقريبًا. 

لكن الاستعمار وتوحشه الدّموي في منطقة مسافر يطا كان نشطًا منذ البداية، وكان الجيش يتولى مُهمة اقتلاع الناس وملاحقتهم بحجة أنها مناطق عسكرية، وأن هناك قرارات وبلاغات متواصلة مُنذ السبعيات تُلزِم الأهالي على ترك بيوتهم وقراهم في 13 تجمعًا في مسافر يطا من أصل 22 تجمعًا، فيما تتعرض بقية التجمعات لسياسات الملاحقة والهدم ومنع الحصول على البنى التحتية والخدمات الأساسية. 

مع بدء الاستعمار الرعوي في مسافر يطا، بدأ المُستعمِرون خُطوات سَريعة لتغيير المشهد في تلال وسهول ووديان مسافر يطا، فصار الراعي المُسلح يحدد ما يُسمح لك بالوصول له من أرض أو آبار ماء، ثم صار يُحدد ما يسمح لك من اقتنائه من مركبات ومعدات ومولدات كهرباء وطاقة شمسية، إذ يُهاجم هؤلاء المستعمرين أي تجمع ليلًا أو نهارًا وسلاحهم بأيديهم، ويسرقن ويُصادرون يعتدون وليس لأحد الحق في ردّهم والدفاع عن نفسه، لأن جيش الاحتلال حاضرٌ لاعتقال وملاحقة من يتصدى لهم.

خلال سنوات 2020-2023 صار الخبر اليومي في جنوب الخليل هو الاعتداءات على الأهالي في مسافر يطا، وملاحقتهم وهدم مُنشائتهم ومدارسهم، ومصادرة سياراتهم وآبار الماء، ومنع الوصول للمراعي، ومداهمة البيوت وتفتيشها وتخريبها. وصارت صفحات النُشطاء الذين يوثقون مثل تلك الاعتداءات منصة لا تتوقف عن بث المشاهد المُرعبة والمخيفة والتي تتصاعد وتتكثف، وتنتشر بشكل هستيري وضحيتها الأهالي في هذه التجمعات.

وهذا بلا شك مؤشرٌ مُقلق ومخيف، ينبغي أن يكون داقًّا لناقوس الخطر لدى صانع القرار الفلسطيني، ومن يُدير شؤون الناس ويتولى أمانة المسؤولية التاريخية عنهم وعما يحدث لهم في مسافر يطا خصوصًا وبقية مناطق المواجهة اليومية في الضفة الغربية، فالأمر خطيرٌ ومقلق.

مسافر يطا

النكبة مستمرة .. والترحيل لا يتوقف

منذ سبعينات القرن الماضي سَعى أهالي مسافر يطا لحماية أنفسهم وتجمعاتهم الرعوية/ الزراعية من سياسة الترحيل والاقتلاع وذلك برفضهم قرار جيش الاحتلال باعتبار المسافر منطقة عسكرية. لكنّ قوة البطش ظلت ماضية في سياساتها الاستعمارية فَفُتحت أبوابَ جحيمِ الهجمة الاستعمارية على أرض المسافر، وأقام الاحتلال عشرة مُستعمرات وبؤر استعمارية للسيطرة على المنطقة كان منها: ماعون (1981) حافات ماعون، كرمئيل (1981)، أفيجايل (1981)، ويعقوب دالي، وأحيطت المنطقة بحواجز دائمة للجيش كحواجز: منيزل، وكرمئيل، وحاجز بين يطا والكرمل، بالإضافة لعشرات الحواجز الطيّارة وغير الثابتة، وصار هناك عمل منظم ومبرمج يتناوب على القيام به جيش الاحتلال وعصابات المُستعمرين، وقد هدمت الخرب وطرد أصحابها واقتلعوا أكثر من مرة خلال السنوات الماضية. 

غير أن الأمر تكثّف في العشرين عامًا الأخيرة، وصار على أهالي مسافر يطا مقارعة المُستعمرين وصدّ اعتداءاتهم اليومية، ومتابعة القضايا القانونية لمواجهة قرارات جيش الاحتلال عبر المحاكم التي ذهب لها الأهالي بقضيتهم في محاولة لإثبات حقّهم الواضح ورد ادّعاءات الجيش الباطلة. لكن الدولة الاستعمارية كانت واضحة في أهدافها مُنذ البداية، ولذا توّجت قراراتها بالسماح لجيش الاحتلال باقتلاع 13 تجمعًا في مسافر يطا وذلك منتصف عام 2022.

بصدور قرار محكمة الاحتلال بالسماح للجيش باقتلاع القرى والتجمعات الفلسطينية، وأمام صمود الأهالي وتمسكهم بأرضهم وحقهم، خُصوصًا أن غالبيتهم ممن هُجر من بئر السبع والمناطق التي احتلت عام 1948م في جنوب فلسطين، ولم يسلم من سياسات الملاحقة والترحيل طوال 75 عامًا، ولذا لا خيار أمامه الآن إلا البقاء في أرضه. أمام هذا الصمود وكي تجبرهم دولة الاحتلال على الرحيل فقد استخدمت بحقهم الإجراءات الأشد عدوانية في ظل تكتم إعلامي وغياب لتوثيق مثل هذه الجرائم اليومية، و نفذت موجة من سياسات فرض وقائع جديدة على الأرض عبر قرارات عسكرية وإجراءات ملاحقة وهدم ومصادرة ومنع الاستقرار، وعبر استدعاء أداة الاستعمار الرعوي، فصار هناك خَطّان فاعلان في مواجهة أهالي تجمعات مسافر يطّا، الأول: يقوم على التضييق والملاحقة من قبل جيش  الاحتلال، والثاني: تسهيل سيطرة الاستعمار الرعوي على الأرض بالقوة. 

وحتى كتابة هذا المقال، فإن الاعتداءات لم تتوقف وعمليات الرصد والتوثيق أصبحت قاصرة عن الإحاطة بما يجري على الأرض، وفي كل لحظة هناك اعتداءات مُقلقة ومخيفة، وخصوصًا من الانشغال الإعلامي بتغطية العدوان الصهيوني على غزة، وما يُرتكب هناك من جرائم إبادة ومجازر جماعية.

وبحكم متابعتي الميدانية لما يجري من حالة استعمار همجي في المناطق "ج"، فإنني أقول إن ما يجري في مسافر يطا تجاوز حالة الاعتداء والهجوم، ودخل مرحلة التهجير القسري والإبادة الجماعية المنظمة، إذ تدفع المؤسسة الاستعمارية بقوتها وعبر أدواتها المختلفة لأجل السيطرة على كل ما هو فلسطيني مع تركيز واضح على الخرب والتّجمعات الرعوية المُخْطَرَة بالهَدم من قبل جيش الاحتلال. الأمر الذي يستوجب فلسطينيًا البحث عن أدوات مُواجهة غير الإدانة والتوثيق، ذلك أن ما يحدث بحق الفلسطينيين في مسافر يطا هو جرائم إبادة مُجزءة ومقطعة لكنها بالمجمل تُشكل حُلم الاحتلال بتهجير الفلسطينيين ونزعهم من أرضهم.

إن ما يجري على الأرض في الضفة الغربية في العموم هو ترجمة عملية لمقولة "النكبة مُستمرة"، إذ لم يتوقف الاحتلال منذ 75 عامًا عن قتل الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم، وحتى اليوم يتم مُعاقبة الفلسطينيين بهدم منازلهم وتجريف ممتلكاتهم وملاحقتهم بكل مقومات صمودهم وبقائهم لأجل دفعهم بعيدًا عن أراضيهم التي تتوسع باتجاهها المستعمرات والبؤر الاستعمارية الجديدة.